بين الوطن وبلاد اللجوء، هل ما زال "العيد سعيد"؟

منذ ما يقارب الثلاث سنوات، ومع بداية الأزمة السورية، تركوا بيوتهم وذويهم، واتجهوا إلى دول الجوار، تاركين وراءهم تاريخاً من الذكريات والبهجة ليستقبلوا حاضراً ومستقبلاً يخافون مجهوله ويخشون مرارته. لم يحملوا معهم سوى الإرادة وحب الحياة الذي جُبلوا عليه، علّ ذلك يعينهم في تحمل مرارة الآتي.

يحلّ العيد عليهم، فينبش الماضي بما فيه من حنين لأرض الوطن وعيد الوطن. وبشيء من قوة الإرادة يحاولون التمسك ببعض مباهج العيد، علها تعينهم على ما هم فيه من ألم. ولكن، شتّان ما بين العيد في الوطن بين الأهل والأحبة، والعيد في بلاد اللجوء والغربة والمنفى.


يحدثنا حازم، وهو شاب في الخامسة والعشرين من عمره، أتى من قرية على ضفاف نهر بردى ليقيم في عمان منذ نحو سنة ونصف، عن الفرق بين عيد اليوم وعيد الأمس، قائلاً: "كنا نستقبل العيد بحبّ وودّ وفرح، شباباً وأطفالاً وشيوخاً. يبدأ عيدنا بزيارة الأموات، وكان لتلك الزيارة أثر بالغ في نفوسنا إذ تصل الماضي بالحاضر، وأحفاد اليوم بأجداد الأمس. يجتمع كل رجال القرية وشبابها في المقبرة، ويقوم البعض بضيافة الحلويات والتمر والقهوة العربية.

وبعد الانتهاء من زيارة المقبرة يتجه الجميع لأداء صلاة العيد. حتى صوت تكبيرات العيد كان يبعث على الفرح.

أما العيدية، فكانت أجمل ما يزين العيد، لا سيما أني الأصغر بين ثمانية أخوة. كانت العيدية "محرزة". وأنا بدوري كنت أعايد أبناء وبنات أخوتي. الفرحة التي كنت أراها في عيونهم لا يليق بها وصف".

حازم اليوم يعمل في توزيع الألبسة، وكان منهمكاً في عمله في المعرض ليلة اليوم الأول من العيد، لذا لم يسعه الوقت لشراء ثياب جديدة، أو لتزيين شعره ولحيته على الأقل.

ولم يكن الأمر بالمهم بالنسبة له، فقال معلقاً: "لا أرى أحداً في العيد، فما أهمية الحلاقة والتزيين والثياب الجديدة؟" ولدى سؤالي عن كيفية قضاء وقته في العيد، رد قائلاً: "أنام معظم الوقت كي لا أفكر بشيء".

وسيم، الشاب السوري الذي لجأ أيضاً منذ نحو سنتين ونصف إلى الأردن يحدثنا عن جو العيد في بيته: "حلويات العيد، ورائحة القهوة العربية التي يعبق بها البيت ليلة العيد، وصوت التكبيرات الذي يملأ البيوت والشوارع ويطرب آذاننا، ذلك كان عيدنا، وكانت أجواؤه كفيلة بأن تغمر قلوبنا بالفرح".

وعن العيد خارج البيت، يقول وسيم: "بعد عودتنا من المقبرة، وأداء صلاة العيد، نبدأ بمعايدة الأقارب في القرية، مبتدئين كالعادة ببيت العريس وبيت الميت. وباقي أيام العيد أزور أقاربي الذين يسكنون خارج القرية، وأقضي أمسيات العيد مع أصدقائي حتى الفجر. لم نكن ننام في العيد. كان الوقت مليئاً بالفرح".

وسيم الذي يمضي العيد اليوم في العمل قاصداً ألا يكون في إجازة تبعث ذكريات من شأنها أن تجعله مكتئباً خلال العيد، عبّر أكثر من مرة أثناء حديثه عن غصّته وألمه بعبارات مثل: "ممكن نغير الحديث؟" و "كنّا عايشين!".


أما أم أيمن، الحاجة التي ناهز عمرها الستين عاماً، غصت بالدمعة عند بدأت الحديث معها، قائلة: "آخ يا بنتي، شو بدي احكي لإحكي". أصدرت كلماتها إحساساً بالألم كاد أن يشق عنان السماء حين حدثتني عن اجتماع أولادها الأحد عشر صباح العيد في بيتها. كان يصل عدد المجتمعين على مائدة الفطور في البيت إلى ثلاثين شخصاً من أبناء وأحفاد، فيعم البيت بالفرح والبهجة.

أم أيمن اليوم لا شهية لها لتناول الفطور بعد أن خرجت من بلدها تاركة ثلاثة شهداء من أبنائها وأحفادها، وخمسة مفقودين، لتأتي إلى الأردن برفقة ابنها وزوجته وأولاده الأربعة.

"لا بد للحياة أن تستمر، من أجل الأطفال على الأقل"، هذا ما افتتحت به أم عبد الرحمن حديثها عن العيد، وهي في الثلاثين من عمرها وأم لثلاثة أطفال أكبرهم في الثامنة من عمره، أتت بهم مع زوجها إلى الأردن منذ سنتين تقريباً. أم عبد الرحمن لا تستطيع أن تتجاهل الفرق الكبير بين العيد في الوطن والعيد في الغربة، لا سيما مع القلق الدائم تجاه أهلها في سوريا، ومع الغصة الكبيرة التي تشعر بها جراء أن أهل سوريا قد حُرموا من أجواء العيد وبهجته، ولكن رغم ذلك لا تستطيع أن تحرم أطفالها بهجة العيد في أقل مستوى لها، لذا حرصت أن تشتري لهم ثياباً جديدة وإن كانت رخيصة الثمن ورديئة النوعية، وستعطيهم العيدية كما العادة وإن كانت تقل كل عيد عما قبله بسبب سوء حالتهم الاقتصادية. وتختتم حديثها بعبارة مفعمة بالأمل: "الحرب رح تخلص، ورح نرجع عبلدنا، ما بدنا ننسى كيف منفرح، وكيف منعيّد".

أما ابنها عبد الرحمن ذو الثمان سنوات، عبّر بأسلوب الطفل البريء منزعجاً من عدم وجود الأراجيح في الشوارع كما في سوريا، مما جعله يفتقد بهجة العيد، ويشعر بأن الناس لا تحتفل بالعيد هنا: "كنت أذهب مع أصدقائي إلى ساحات العيد الموجودة في كل مكان، وأشتري الألعاب، وآكل الحلوى. وكنا نذهب لمعايدة الأقارب الذين كنت أحفظ عن ظهر قلب المبلغ الذي يعايدني به كل واحد منهم، فأتنافس أنا وأخوتي وأبناء عمومتي بالمبلغ الذي جمعه كل واحد منا. لا أحد يعايدني هنا غير أبي وأمي وصديق أبي، والمبلغ الذي أجمعه لا أصرف منه شيئاً لأني لا أذهب إلى مكان سوى برفقة أهلي" وكان آخر ما قاله لي عبد الرحمن عبارة جعلتني أتوقف طويلاً عند وعي هذا الطفل الذي تجاوز عمره بسنين جرّاء ما عانى، وجعلت الألم السوري يمثل أمامي حاضراً: "الحمد لله، صحيح مالي حاسس بالعيد، بس أهلي بخير ما حدا منهن مات!".

هكذا يعيشون العيد، ويمتزج يومهم بمرارة الحاضر وبهجة الذكريات، ويستجلبون من أعيادهم الماضية على أرض الوطن ما يعينهم ويزودهم بالصبر والأمل ريثما تحين العودة.


http://www.aldiwan.org/articles-action-show-id-6125.htm

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق